بعينين غائمتين بالزرقة القلقة، وقميص أحمر منذور لإعادة التدوير صيفاً وشتاءً. بقدمين تتحملان قلق المسير، وبذهن نابهٍ لليأس والفقر والجوع،.. حمل الماغوط (جثته) المكفنة بالشعر، المؤجلة لموت موعود، مدافعاً عمَّا تبقى من (رمق أخير) وهو في عزِّ الصبا. محمد الماغوط كتلة من خوف، تتحرك إذا حفَّت ثيابُه وزنَ الهواء، وإذا تلفظت الريح بما يقلق حيِّز الشجرة، أو تناهى إليها كلام طيب، أو حائر بين الهمس والصّخب. حزنه متراس يخفي غاية من دفاعات القلق.. فتجتمع كلمات قصائده فيالقَ أو كراديساً في وجه المألوف من اجتماع الأشياء أو البشر أو الطبيعة. خائف من الوطن، وعليه. خائف من الخوف، ومن القِلّة والكلام. خائف من خوف زوجته وابنتيه عليه. وخائف من الضوء، ومن صوت مصاريع النوافذ المغلقة،.. من التواء شريط سماعة الهاتف، من الخشب المحروق الذي رسم عليه صورة كمال خير بك، وسعاد حسني، من دماغه المتكلف بغطاء يصنع مسافة فاصلة بين جسده وفضاء الغرفة،.. ومن كتبه المستوحشة المتوحدة كامرأة فاتها قطار حنان الرجل،.. ومن كل شيء. محمد الماغوط لغة مقطوعة من السياق،.. ليس لها لسياق، وإن قالوا!. ليس لها سوى توتر خاص بالأسلوب الرجل،.. تنشأ من لا ذاكرته، ومن لا مكان، ولا زمان، بذاكرةٍ، ومكانٍ، وزمانٍ، هي كل تاريخ الخوف، بذاكرة جمعية صبَّتْ كل روافدها في عقل رجل واحد تفجر بموهبة خارقة للعادة، فكانت عباءتُه فضفاضة على كل من التحفها، أو ارتجاها، أو التأم بها. محمد الماغوط شاعر ناجز منذ جدِّهِ الألف. مطبوع على صياغات الكلام، ومعتمد على علاقة الهواء بالنار، وحب الماء للتراب. قصائده لا تصدر عن تصوفٍ،.. غارقةٌ في لذة الخوف والتمنُّع عن الامتطاء،.. بكرٌ، حارةُ الأطراف، مستيمتةٌ في هوى الاستبضاع، تلجُ عتمة، وتصنعُ ألف ضوء، وتموت، أو لا تموت مادامت منْبَتَّةٌ عن صاحبها. محمد الماغوط قصيدة مأساوية ممسرحة بين ذاكرة (سلمية) كالوشم الذي يحمله معصم الماغوط، وقصيدة مدوّنة على فوضى هندسية تكشف التناقض بين طاولة النبيذ الصغيرة، وأثاث الغرفة، وصوت فيروز المنبعث من خارج المكان، وبين جدران تنوء بذاكرة متحولة بين الفن والعقيدة المتبدلة، وأشياء تنوس بين تجريد الواقع الذي يحدق في صاحبه، والواقع المجرد الذي يريده صاحب الغرفة مزاجاً شاعرياً يبث رغبات تلوي أعناق ضيوف (غرفة بملايين الجدران). فهل أهدر الماغوط حياته في كتابة الشعر، أم أهدر الشعر حرية قياده حين أسلمها للماغوط؟. عندما كتب الماغوط أولى نصوصه، قالوا له هذا شعر!. في السجن الأول كان ذلك. وحين اجتمع إلى رواد (خميس شعر) في بيروت، وقرأ أدونيس للماغوط، قال الحاضرون: بودلير.. رامبو؟. فكان صاحب الشعر بعينين كسيرتين بتنسم أولى فضاءات مجده الشعري. هنا، تقاسم الماغوط هواء الحرية في بيروت مع كثير من شعرائها وصحافييها ونقادها. وحيث شكلت بيروت في كل الزمان العربي نافذة واسعة للحرية منذ خمسينات القرن العشرين، كان الماغوط يجول بين مسرح (جان دارك) وشارع (بِلس) والجامعة الأمريكية، ومقاهي شارع الحمراء الذي لا ينام،.. وهناك من ينتظر فجر أحد الأيام ليقرأ ما كتبه (هنري حاماتي) في جريدة النهار منتقداً بعنف قصيدة للماغوط، وإذ يلتقيان على بعد، يرفع الماغوط يديه مستسلماً، وعقيرته بما قد تجود به فريحته من (عسل) كلام المحبين والأصدقاء، وهو يقول: شَقَّيتا.. شقيتا (مزَّقتها.. مزقتها)، ويقصد القصيدة المعنية بالقصيدة. كل ذلك، مع تفاصيل لا تحصى شكلت تجربة الماغوط الكبيرة. كأنها مجموعة صدف تراكمت لتشكل أكثر من ظاهرة، وأكثر من مدرسة، فقصيدة الماغوط عصية على التقليد لشدة بساطتها، لكنها نافرة اللغة، بتلهف الكلمات والألفاظ وانسياقها بتسلسل وتضاد، جرياً وراء السخرية، أو تعميقاً للتناقض، حتى لتبدو القصيدة كلمة واحدة، أو فكرة واحدة. وهو هنا سيد النهايات التي تصعب على كثير من الشعراء، فالنص عنده وحدة متصاعدة من التوتر والضجيج والصراخ والتأرجح، الذي ينتهي بدوامة من السكون والتأمل المضحك المبكي،.. ولا أحد يعلم سوى الماغوط تقنية الوصول إلى ذلك، فمن غير المنطقي الافتراض أن الفكرة كاملة تسبق كتابة القصيدة، والأرجح أن التداعي الذي يفرضه الحديث يجعل الكلمات تهطل، فتشكل ذلك المستنقع الذي تنشر كلمات الماغوط رائحته. في (سياف الزهور) يقول الماغوط: (لم أحب ولم أكره في حياتي سوى الفقراء..) فعالم الماغوط المنتمي أولاً إلى عالم الفقراء، وثانياً إلى قضيتهم، يخصُّ بقصائده دقائق حياة الفقراء، بعلاقاتهم ومنطق تفكيرهم، ببؤسهم، بتضحياتهم، بنصيبهم الكبير في الوطن، ونصيبهم الصغير من خيراته. كما يقول في الكتاب نفسه: (أراهن بكل ما أملك من معنويات عالية، وثقة بالنفس، وبمستقبل هذه الأمة الباهر.. على أنه منذ الآن، وحتى تنتهي المفاوضات الأخيرة بين ما تبقى من العرب و (إسرائيل) إلى النهاية الموعودة.. ستحفل المنطقة بكل ما يخطر على بال من المباريات الرياضية، والعروض البوليسية.. والجيدو والكاراتيه، ورمي القرص، وشد الحبل والقفز العالي والجمباز عى الثابت والمتحول). لابد أن التناقضات الشخصية أيضاً تفعل فعلها، فثابت الماغوط متحول بقدر ما كانت موهبته كبيرة، وبقدر ما حفلت حياته بغنى مسفوح تلون بكل درجات الأحمر، من شقائق النعمان إلى الوردة الدمشقية إلى تلك الزوبعة الحمراء شقيقة الأبيض والأسود في انتمائه السياسي الكبير، المتحول إلى لا شيء. صحيح أن الماغوط في هذه الجزئية الكبيرة يمارس الشعر حياة، فالشعر متحول كبير، يفيض عند أصحاب المواهب الكبيرة على كل عقيدة سياسية، لكن الشعر لا يرتهن أبداً كحالة (الرفضية) المستمر عند الماغوط، فالشعر حركة غير (خطية يقينية) ولا ينتمي إلى مبدأ في جوهرة، وهو بذلك مختلف عن القصيدة بموضوعها الذي قد ينتمي إلى مبدأ، أو لا ينتمي. والماغوط هنا أسير حالته النفسية غير الثقافية. هو طبيعي، غير ديبلوماسي في حياته، كما في شعره ، يمارس مزاجه الطبيعي الجبول ببيئته القاسية التي لم ترطبها نساء المدينة ومغرياتها، ولم تؤثر فيها أضواء الشهرة وأقلام المادحين من النقاد، كما لم تغير فيها سعة العيش أو عروض الرفاه، والسَّفر، ودعوات الفنادق من فئة خمس نجوم، وأكثر. تناقضات الماغوط تفرض أطيافها، باعتزازنا بموهبته الكبيرة، واعترافنا بخيبته في أمم كتب لخيرها ولجمالها، فأخذت العَرَض ونسيت جوهر شعره،.. هذه التناقضات تطبع وجهة نظرنا في محاولة الابتعاد عن تقريض الماغوط وشعره، إلى تعليم الكلام عن الماغوط وشعره، في محاولة مقاربة موضوعات شعره وقصيدته، فانتماء قصيدة الماغوط إلى عالم البسطاء، ببشاعتهم وفقرهم وجهلهم وتخلفهم، بتعاملهم الفقير مع أشيائهم الفقيرة، بانسجامهم مع حالة العجز، الخاصة بفقرهم المقيم، والعامة بما يعانونه في مجتمعاتهم،.. ذلك الانتماء الذي تتنفسه قصيدة الماغوط يفترق عما يصدر عن الماغوط في محاولة الدفاع عن مزاجه وفرديته، وكأنه يقول مالا يفعل، الان، أو قال كلاماً كان يفعله في عهد شباب قصيدته، تلك كانت أولى ملاحظاتنا وآخرها، مع تمييزنا بين الشعر والشاعرية وفردية الشاعر التي تصدر عن بشر نحترم خياره وتميزه. |
بين سلمية ودمشق وبيروت
basher haider- عضو نشيط
- عدد الرسائل : 26
العمر : 42
مكان الإقامة : دمشق
تاريخ التسجيل : 06/04/2009
- مساهمة رقم 1