أنيسة عبود: الأديبة السورية التي تفوقت على انوثتها
و اعتلت منصة الفكر و العمل الأدبي فأغنت
الأصل بفرع نضير يحن في عمقه إلى الجذور
القص هو التأليف الذي يحققه الكاتب للآخرين في لحظة معينة ، و ذلك من خلال فعاليات حركية و معرفية يجمعها ويجعلها متكاملة في سلوكيات شخوصه ، فالقص هو مستودع تمزج فيه أحداث الواقع، فيعجنها الكاتب ليحصل منها على تأليف واحد يستسيغه كل الذواقين، و هذا ما حاولته الكاتبة أنيسة عبود حيث اجتمعت كل المنغصات و الاحباطات ، و يظهر تضاؤل الطاقات التي تتلاشى ، بسبب عدم تركيز الانتباه و يظهر التعب الذي يبدو بعجز جسدي و نفسي ،فهي تحاول تأكيد ذاتها و تجعل الحلم أمراً مسموحاًيحمل التجديد و الانعتاق من القديم ، كما أن الكتابة تخرج المشكلة في لحظات التراجع عندما تميل الأمور إلى فقد توازنها ، فيصبح كل شيء غامضاً ، إنها حاضرة في لحظات الابتهاج و الفرح .
و هل هناك تساؤلات لا أساس لها في العمل القصصي ؟
من السهل أن ننظر إلى تفسير الكاتبة بأنه خاص و إن كانت تسير في الاتجاه الصحيح و بأنها تحاول أن تصنع الحدث بأكمل معانيه حيث تخرج التفاعل الجواني للموجود المعرفي ، و تبحث عن جذورها في تعميق تخصصي ،و لا شك بأن الضغظ في سبيل التجانس هو أمر قد زاد عند أنيسة عبود حيث لا مجال لبناء جماعة أصيلة تفهم الواقع المثار من قبل الكاتبة .
((أردد أحرف اسمي في عمود البناء أطير يرفعني الهواء ارتفع ارتفع أجد أطفال القرية يلوحون لي)) حريق في سنابل الذاكرة ص/6
إن القص يبدأ في الواقع من المنطقة التي تهمه فهو غير منعزل عن جوانب الموجود ، و بالتالي فهو مرتبط بالمعرفة و من الخطأ الظن أنه يسير إلى خلق مكان لؤلئك التعساء الذين أصبحوا دون المستوى العادي حيث يعيش الأشخاص في مستوى أعلى من مواردهم و هكذا تجد الأديبة نفسها وسط كثير من المشكلات الصعبة ، فهل يبقى بإستطاعتها أن تتعمق في القص وفق الفهم للحقيقة .
في الوقت الذي ترى نفسها قد دخلت في منطقة توترت فيها قسوة العلاقات و بدت الروابط تعيش في ضبابية و ارتداد نحو الموروث و هذا ما يفلت خيوط العمل بعض الشيء ، فهي تستخدم الميثولوجيا لتصف بها الموجودات ، و لا شك أن الأديبة تعلل نفسها بمفترضات حول ما هو ممكن ، فهي لا تستطيع أن تخطو خارج الواقع حيث أنها تقدم وصفاً صادقاً للزمان و المكان .
كما أنها تنظر من منظور مميز يقع داخل الواقع نفسه رغم أنه لا يطابق الوصف في بعض الأحيان لاسباب من الممكن معرفتها فهي تود أن تقدم لنفسها و للغير ضرباً من المشاركة و الانتقال عبر دروب المعرفة القديمة، أو تعتقد أن أفضل سبيل للدخول في هذه الدّرب ،أن تتأمل و تخل في التفصيلات القصية ، كما أن الموضوعات التي تتكيف فيها الكاتبة مع عالمها ،تدفعها نحو ادراك الموجود و ان جذور المرحلة تنشِّط الدّافع العقلي ليتشابك بطريقة لولبية مع الرغبة ، كما أنّ الدّوافع الدّاخلية لدى شخوصها تبدو مألوفة و تتزايد أهميتها من خلال التداعي أثناء القص . . .
((و حلمت أيضاً بقصر مريح و بكتبٍ مذهّبة و بحديقة غناء و حاشية تطوف حولي تدعوني بالسيدة النبيلة ، فأوزع الأوامر ، و ابعث بالطلبات لمن أشاء ، ارسل رتلاً من السيارات من أجل البحث عن زجاجة عطر مقدس أدهن بها جسدي ليسترد روعته و لأغير جلدة وجهي ))
المجموعة ص/ 10
صحيح أن صعوبة القرار الذي تتخذه الأديبة لا يمكن للكثير من الناس فهمه إلا أن الاحساس بالمسؤولية الكاملة و المؤلمة تسبب تطلعات كثيرة عن تصور الواقع و الاحتمالات التي اختارتها الكاتبة لنفسها و للجميع ،و هذه تطلعات غامضة تربط بين الزمان و المكان حيث تظل قوة الفكر تكشف عن مجالات واسعة مثل الحرية و الذنب و الموت ، و هي ترفض ضروب التقيد بالقواعد ،إذ تنظر إلى القوانين على أنها حمولة ثقيلة متوضعة فوق الإنسان لديها .
((و يتساءل ؟ لقد رسمتني جائعاً و أوجدتني منهزماً تافهاً لا قيمة لي إلا أن أحرس رجلاً و امرأة في غرفة النوم ، بينما تجردني أنت من غرائزي و انسانيتي و تحولني إلى مسدس أو سكين تأكل الأبواب و النوافذ انتظاراً و حراسة )) ص/19
إن الأديبة تكشف التداخل بين اللفظ و المدلول حين تتعمق في تطور في معطيات المرحلة ، و تظهر الضعف و الميل العدائي تجاه المفرزات و القواعد الآنية ، و ترتكز على اخلاقيات الماضي .
و ترى أن المخاطر يمكن أن تتراجع إذا أعدنا قراءة القوانين و ادخلناها في اطارها الحركي ، حيث يتجدد الإنسان متجهاً نحو مستقبل مقبول فهي ترى أن كل فعل يحمل في تكوينه مخاطر كثيرة لذا عليه أن يأخذ هينة الجد و الاندفاع ، غير أن الكاتبة لم تنج من الصراع بين الواقع و ما تصورته ، فهي في كثير من الأحيان خائفة تحمل طابع التهديد و الاحباط لكل الممكنات الموجودة في عالمها و قد تجعل التناهي الجذري للقص واضحاً في كثير من المواضيع و ذلك أن تشكل موقفاً جزئياً كونها جسداً يحمل روحاً مندفعة .
((لا أب لك يا ولد يا عامر لا تكثر الاسئلة لأنها ستقودك إلى التهلكة، تعلّم أن تتقبل كل شيء هكذا لأنه لا أحد سينتظر سؤالك و لا رأيك حتى يبدأ اللعبة ، ها أنت تأكل و تشرب ، ماذا تريد أكثر ؟ )) ص/21
و مع ذلك فهي تعرف ما الذي يجعلها قلقة ، و هي تشير إلى شيء محدد ، فما سبب القلق الناشىء عندها ، إنه لا يوجد في مكان و لكنه يلتصق بها إلى درجة يسيطر عليها و يجرمها لذة التمتع ، و هذا القلق يتضح من خلال الهم ، و الكبت و الخوف المستمر من المجهول ، حيث تتعالى ألسنة الاحباط ، و يخبو الأمل متلاشياً في عتمة الاستلاب المدروس للمرحلة .
لقد فصلت الأديبة بين القلق و التفكير ، فالتفكير ينهي السلبيات التي تتصارع في أجواء الكاتبة غير أنها تنتقل عبر مساحات من الفطرية الشعبية حيث الناس البسطاء و تطلعاتهم ، و الفكرة العتيقة التي عشعشت في أذهان الشخوص عندها ، فهي منقادة نحو المعطيات التقليدية الموروثة، حيث الحسرة و الحزن يأخذان طابعهما الأصيل ، إن هذه الطريقة في القص ، تثير مشكلة التملص من الواقع المفروض و الهرب من أسيجة المرحلة ، حيث لا بد من التعامل مع عناصرها بجذر و دعة و مسك الخيط الذي يفصل بين الكاتبة و الاستغراق في التزلج مع الامكانات .
(( يا رأس الحسين يا – و تروح أمك تولول ويتهدج صوتها في توسل مريع لكل الأولياء و الصديقين، ثم تولول و تقول لك وهي تفتح النافذة المطلة على الحقول ))
و تتضخم هذه العلاقات بشكل لا محدود و تأسر انتباه الأديبة و يرتفع ضغط شخوص الكاتبة إلى حده الأقصى فيمثلون غيظاً حيث تتم عمليات الكبح من خلال الحركات و الفكر ، كي يتمهلوا في تنفيذ ردود الأفعال عند ذلك تنظر إلى المشكلة بعقلية شمولية لا من خلال ثقب ضيق يتماشى مع التطلع عندها ، إن في وسعها أن تنقل ما في حوزتها من أفكار عن طريق التخلص من عدد كبير من ضروب الاشراط النافع حيث من الطبيعي أن ترى الأمور عبر الآخرين فحياة شخوصها قائمة على علل نفسية، ترفع اراءاً تمنحهم في الظاهر بعض الأمن و الهدوء ، لكنهم مع الأسف لن يجدوا من يعمل بتوجيهاتهم فالكاتبة بصدد اناس بامكانهم أن يكونوا نافعين و لكنهم ما أن يبلغوا درجة واحدة من درجات المجتمع حتى يغلقوا الأبواب خلفهم فتبتلعهم دوامة المادة الزائفة ، فعندما تتساءل الكاتبة وقد أصابها القلق، هل أبطالها قادرون على أداء الأفعال الارادية ؟
فهي تريد لهم أن يكونوا أسوياء يتمسكون بكثير من القيم و لكن هناك خلط بين العناد و الذي هو عجز رد العَمل المدروس الذي يدل على القوة و التفكير ، لهذا السبب كانت كثير من الغرائز الشائعة مهيأة للانحراف ، حيث يشعر الفرد بأنه مدفوع خارج نفسه دون معرفة ، و يظهر الميل إلى الانحراف ضمن احساسات محبطة ، و تظهر الانفعالات شديدة كالخجل و البكاء و الكاتبة تحاول أن تتجاوز كل شيء ، و قد تكون لديها معتقدات أو طموحات لكن الواقع المعطي يدل على التشتت و الانهيار و من الضروري أن تنبذ الكاتبة الأحكام المسبقة إذا كانت لديها الرغبة في أن تبلغ الهدف من القص !!
((قال القاضي كما أمروه ، ثم سأل عن أي شوق تبحثين يا امرأة ، قالت : ابحث عنك ، أنت الشوق الأبدي الذي لا يخلف وعده ، ابتسم القاضي و هرع إليها يضمها ، مسح على شعرها فاخترقت أصابعه – نظر حوله خائفاً فرأى الملك يرمي عليه الأفعى كي تطوقه لأنه خالف الأمر و وقع في المحظور )) ص/45
و ليس ذلك سوى نظرة عامة و ثمة تقنيات فنية للقص تكشف عن حالة خاصة عند الأديبة ، و مضمون ذلك أنها تحاول أن تتخلص من عصابها ، و هي مسألة رغبة في أن تكون على صواب و قد تبدو هذه النظرة للوهلة الأولى متناقضة مع العمل الأدبي للكاتبة فهي منفردة في تحليلها المبدئي للوجود ، علماً أن العالم في عالم الأدب يتألف من تجمعات تحمل نفس المد الفكري ، غير أن المحصلة العملية للقص تعبر عن سر غامض لا يمكن تفسيرها ، و ربما كانت الأديبة أنيسة عبود على حق ، و لكن هناك الكثير من الظواهر التي قد تضاف إلى القص كالنرجسية و الشعور بالقصاص الذاتي و الكبت . . . .
وهي تعلم أن المحاكمة لا تؤثر على قصها ، بل ترى أن بذل الجهود في البرهنة على سلامة توتر الحدث هو الهدف ، و قد يُظهِرُ القص نوعاً من الانتفاخات الأدبية و ذلك عن طريق الايحاء ، حيث تسترسل الإثارة في حض القارىء على متابعة النص و مراقبة خيوط العمل الكتابي ، و هذا سحر اتبعته الكاتبة في جذب القارىء إلى ما تريد قوله في مجموعتها [حريق في سنابل الذاكرة ] .
((كل شيء غريب ، يشيرون إليك ، يهمسون كلاماً لا تفهمه ، تريد أن تسأل ماذا ؟ و لكن تتذكر اسامة بن زيد ، تسكت ، تقترب من الواجهات الزجاجية ، ترى قامة رجل تتبعك ، تتذكر أنك تتحول إلى وحش )) ص /45
و على الرغم من ضرورة احجام الأديبة عن أية محاولة صعبة فقد فضلت ترتيب المشاعر من حيث أوجه التشابه ، فإن هناك أهمية كبيرة للتمييز بين الانفعالات الايجابية و بين الانحدار السلبي فهي تعبر عن ذلك بالخوف و الغضب و الكراهية ، و تحصر انفعالاتها الإيجابية بالحب و الفرح و الانتماء .
((قلت خذني إلى قاسيون ، يضع يده على كتفي ، ابتعد يحاول أن يحيط جسدي بذراعيه، يحدق في وجهي مبتسماً، هيا ندخل يا حبيبتي تفضلي )) .
هنا تكون المشاعر و الانفعالات هي المنفس الذي تجد فيه الكاتبة نفسها ، إنها الطريقة التي يتوافق فيها التعامل مع القص ، و الكشف و المعرفة ، انه الفهم الموضوعي الذي يكون عند الكاتبة .
حيث أن كلمة الموق يمكن أن تكون فضفاضة ، فهي تدل على تشكيلة محدودة نسبياً و في الرواية العادية يكون القص شعوراً مرتبطاً بموقف واضح المعالم على حين أن حالة من التماثل و التفاعل ترتبط بالشعور العام الشامل للعالم عند الأديبة و هذا ما تسلكه القاصة ، فهي تنشد المعرفة، و المعرفة عندها ، هي المشاركة أي مشاركة الغير حتى تصل إلى إقامة علاقة متينة مع القص ، إنها تضع الاهتمام الكتابي بين قوسين و تقترب من النقطة التي تسعى إليها بطريقة موضوعية متجردة ، و هذه الطريقة متخصصة في فهم المكان ، فالمكان هو موضع الاهتمام و ذلك بالانتقال من مدينة إلى أخرى.
(( اشتقت إليك يا أمي هكذا كتبت آخر رسالة ارسلتها من أوروبا )) ص/7
و بالطبع لم تكن الأديبة أنيسة عبود أول من أشارت إلى الخلاف بين المكان كما يعرفه الموجود في تجربتها ، فالمكان يقاس بالمسافة ، و الناس يشعرون منذ زمن طويل بأن المكان يمكن أن نجتازه بسرعة كبيرة أو ببطء طويل . . . .