.........

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    وعظتني نفسي..جبران

    شادي
    شادي
    مشرف عام


    ذكر عدد الرسائل : 684
    العمر : 41
    مكان الإقامة : سلمية
    تاريخ التسجيل : 17/02/2008

    كتاب وعظتني نفسي..جبران

    مُساهمة من طرف شادي الإثنين ديسمبر 15, 2008 7:25 am

    (1)

    وعظتني نفسي فعلمتني حب مايمقته الناس ومصافاة من يضاغنونه. وابانت لي أن الحب ليس بميزة في المحبّ بل في المحبوب. وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين، أما الآن فقد تحول الى هالة أولها آخرها وآخرها أولها تحيط بكل كائن وتتوسع ببطء لتضم كل ما سيكون.



    (2)

    وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرا بما يعدّه الناس شناعة حتى يبدو لي حسنا. وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان واضمحل فلم أعد أرى سوى مايشتعل.



    (3)

    وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة و لا تضج بها الحناجر. و قبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها لا اعي سوى الجلبة و الصياح أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة فاسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور مرتلة تسابيح الفضاء معلنة أسرار الغيب.



    (4)

    وعظتني نفسي فعلمتني أن أشرب مما لا يعصر ولا يسكب بكؤوس. لا ترفع بالأيدي ولا تلمس بالشفاه. و قبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد أخمدها بعبة من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة . أما الآن فقد صار شوقي كأسي, وغلتي شرابي, ووحدتي نشوتي. وأنا لا ولن أرتوي. و لكن في هذا الحرقة التي لا تنطفيء مسرة لا تزول.



    (5)

    وعظتني نفسي فعلمتني لمس ما لم يتجسد و لم يتبلور، و أفهمتني أن المحسوس نصف المعقول . و أن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه. و قبل أن تعظني نفسي كنت اكتفي بالحار إن كنت باردا . و البارد إن كنت حارا. و بأحدهما إن كنت فاترا . أما الآن فقد انتثرت ملامسي المنكمشة و انقلبت ضبابا دقيقا يخترق كل ما ظهر من الوجود ليمتزج بكل ما خفي منه.



    (6)

    وعظتني نفسي فعلمتني استنشاق ما لا تبثّه الرياحين ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي كنت إن اشتهيت عطرا طلبته من البساتين أو من القوارير أو المباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لايحترق ولا يهرق. وأملأ صدري من أنفاس زكية لم تمر بجنة من جنات هذا العالم ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.



    (7)

    وعظتني نفسي فعلمتني أن أقول " لبيك " عندما يناديني المجهول و الخطر . و قبل أن تعظني نفسي كنت لا أنهض إلا لصوت مناد عرفته . و لا أسير الا على سبل خبرتها فاستهونتها . أما الان فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول و السهل سلما أتسلق درجاته لأبلغ الخطر.



    (8)

    وعظتني نفسي فعلمتني ألا أقيس الزمن بقولي : كان بالامس وسيكون غدا. وقبل أن تعظني نفسي كنت أتوهم الماضي عهدا لا يرد والآتي عصرا لن أصل اليه ، أما الان فقد عرفت أن في الهنيهة الحاضرة كل الزمن بكل ما في الزمن مما يرجى وينجز ويتحقق .



    (9)

    وعظتني نفسي أن لا أحد المكان بقولي : هنا و هناك وهنالك. وقبل أن تعظني نفسي كنت إذا صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدا عن كل موضع لآخر. أما الآن فقد علمت أن مكانا أحل فيه هو كل مكان. وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات.



    (10)

    وعظتني نفسي أن أسهر وسكان الحي راقدون. وأن أنام وهم منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي ولا يرصدون أحلامي في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفا في منامي إلا وهم يرقبونني. ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم.



    (11)

    وعظتني نفسي فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهر في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء. وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة.


    (12)

    وعظتني نفسي فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك ولا أدني من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين: رجل ضعيف أرق له وأزدري به، ورجلا قويا أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أني كونت فردا مما كون البشرمنه الجماعة. فعناصري عناصرهم. وطويتي طويتهم. ومنازعي منازعهم. ومحبتي محبتهم.فإن أذنبوا فأنا المذنب . وإن أحسنوا عملا فاخرت بعملهم. وإن نهضوا نهضت وإياهم.وإن تقاعدوا تقاعدت وإياهم.



    (13)

    وعظتني نفسي بأن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي . فأنا وإن سرت بالنور فلست بالنور.وأنا وإن كنت عودا مشدودا الأوتار فلست بالعواد.



    (14)

    وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني .ولقد وعظتك نفسك وعلمتك. فأنت وأنا متشابهان متضارعان. وما الفرق بيننا سوي أني تكلمت عما بي وفي كلامي شئ من اللجاجة. وأنت تكتم ما بك وفي تكتمك شكل من الفضيلة.

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 10:11 pm