أصدقائي الأعزاء، أنقل إليكم بعضا من آخر أخبار المفكر العربي المصري "نصر حامد أبو زيد"، من خلال حوار معه أجري مؤخرا،الحوار منقول عن شبكة التنويريين العرب،و أعتقد أننا نستفيد من هؤلاء اللذّين يعيشون الحاضر إبداعا و ليس إتباعا،اللّذين همهم الأساس ،رفعة و تطور و سمعة بلدهم،رغم تنكر هذه البلدان لهم في الكثير من الأحيان ،بتأثر من المد الأصولي السلفي التكفيري الذي يبدو أنه قد أستمرأ تخوين و تكفير الناس ،ليس لسبب بل لأنهم لا يطيقون سوى أن تكون أصواتهم الصدئة "فقط" هي المسموعة،رغم تحجرها و تكلسها،حتى باتت رفيقا مثاليا للموت في هذه الحياة.فإلى من يوقدون شموع الغد لنا و لأجيال الشباب الواعد،المجد كل المجد،فهم معقد املنا في الخلاص من صدا تخلفنا ،و من بؤس و تردي الفكر في مجتمعاتنا التي قد توقفت عن التطور منذ أمد بعيد.اليكم الباحث الإسلامي و الدكتور في الآداب ،إليكم نصر حامد أبو زيد:
___________________________________________________________
رغم سنواته الطويلة التي قضاها في هولندا، يرفض المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد اعتبار غربته منفى، مشيرا إلى أنه تصالح مع أمه (مصر) منذ عام 2003 حيث احتفل مع عدد من المثقفين المصريين بمناسبة بلوغه عامه الستين، فضلا عن دعوته من قبل جامعة القاهرة للمشاركة في الاحتفال بعيدها المئوي، وهو ما يبدو نوعا من التكفير عن الإجراءات التي اتخذتها ضدها قبل أعوام واضطرّته إلى مغادرة مصر.
- ثمة إشكالية يثيرها بعض المفكرين حول علاقة الإسلام بمفهومي الديمقراطية والحرية، إذ يرى البعض منهم أن الإسلام بوضعه الحالي لا يستطيع الانسجام مع المفهومين السابقين، بيد أنك تعترض في إحدى حواراتك على مسألة ربط الإسلام بالحرية والديمقراطية، مشيرا إلى أنه ليس ضد مبدأ تطبيقهما، والسؤال: إذا كان الإسلام، حقا، ليس ضد الحرية والديمقراطية، فلماذا بتنا نشهد مؤخرا صعود تيارات إسلامية ذات نزعة أصولية إلغائية ترفض التعامل مع الآخر إلا من منظور ديني ضيق؟ ومن ثم إلى أي مدى يمكن للإسلام التعايش مع الثقافات والقيم الجديدة؟
- أصبحتُ في الآونة الأخيرة أعارض مناقشة كل المسائل والقضايا الاجتماعية والسياسية، بل والاقتصادية والعلمية والطبية، من منظور "الدين" أيا كان هذا الدين. هذا ما أُطلق عليه "تديين كل شيء" كأنه لم يكن يكفينا تديين الدولة، التي من المفترض أن تكون دولة "المواطنين" القاطنين على أرضها بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، لم يكن يكفينا هذا فانطلقنا في حمى عارمة نديِّن كل شيء.
سؤال الحرية والديمقراطية سؤال سياسي اجتماعي فلسفي قبل أن يكون سؤالا لاهوتيا. في علوم اللاهوت في كل الأديان نوقش سؤال الحرية من منظور ضيق للدفاع عن حرية الإرادة الإلهية. أي أن النقاش انحصر فيما إذا كانت حرية الإنسان في اختيار أفعاله تنتقص من الحرية الإلهية أم لا. كانت هذه حدود النقاشات اللاهوتية.
في مجتمعاتنا الحديثة – أو التي تشبه أن تكون حديثة – حين يطرح سؤال الحرية يبدأ النقاش أوتوماتيكيا حول "الحدود" و"الضوابط"، حدود الحرية وضوابطها. أي أننا قبل أن نمارس الحرية نفكر في "القيود". هذا يعكس فزعنا من الحرية، ومن الديمقراطية التي نتشدّق بالإيمان بها تشدقا بلاغيا، لكن لا أحد يمارسها مع زوجته أو أطفاله. وقليل هم المعلمون والأساتذة الذين يمارسونها مع تلاميذهم وطلابهم.
ومع ذلك سأجيب على السؤال: لا أجد فيما درست وتعلمت وبحثت وكتبت طيلة حياتي في الإسلام "مانعا" ضد الديمقراطية. والمسألة بسيطة، الديمقراطية مفهوم اجتماعي سياسي مرتبط بالدولة الحديثة التي لم توجد في عصر النبي ولا في عصر التابعين ولا تابعي التابعين.
حين انبثق سؤال "الديمقراطية" وجد البعض في مفهوم "الشورى" ما يسمح بتمرير الديمقراطية، لكن كان على هذا التأويل للشورى أن ينتظر انبلاج عصر الديمقراطية. هكذا ترى تأثير العصر في إعادة قراءة المفاهيم التراثية. لكن البعض يعتقد للأسف أن هذه الدلالة المعاصرة كانت كامنة في المفهوم بسبب تصور أنه مفهوم "مقدس".
أما مفهوم الحرية فهو في تقديري محايث لأي دعوة دينية، فالنبي الذي يأتي بدعوة جديدة يدعو الناس إليها لابد أن يكون مؤمنا بحرية هؤلاء الذين يدعوهم وحقهم في تغيير اختيارهم الديني، بترك أديانهم والالتحاق بدعوته. بل إن كل دعوة دينية تحض الناس عل ممارسة هذه الحرية، وتنعي عليهم التمسك بتقاليد الآباء والسير على نهجهم.
القرآن مليء بهذه العبارات التي تسخر من هؤلاء الذين يقولون "هكذا وجدنا آباءنا" فيرد القرآن "أو لو كان أبائهم لا يعلمون شيئا ولا يفقهون". لكن عملية لهوتة الدين – أي تحويل الدين إلى لاهوت – تحرم الناس من حريتهم التي على أساسها اختاروا هذا الدين بعينه.
تصبح "حرية الدين" مُحرمة، ويصبح سؤال الحرية مكبلا بالبحث عن الحدود والضوابط قبل بدء الممارسة. لا يدرك هؤلاء اللاهوتيون أنهم يحولون "الدين" إلى سجن، ويحولون الله – تعالي عن تصوراتهم – إلى "سجان"، ويصبح "الأنبياء" حرس سجون ... الخ كل هذا الهراء.
- أبقى في إطار السؤال السابق، برأيك ما سبب صعود التيارات الأصولية السابقة إلى الواجهة؟ وما الفرق بينهما وبين حركات المقاومة الإسلامية (حماس- حزب الله) التي يمكن نعتها بالتشدد، اعتمادا على أنّ خطابها الإيديولوجيّ منسجم- إلى حد ما- مع التيار السلفي؟
- علينا أن نبحث عن الأسباب في علل المجتمعات وأخطاء وخطايا الأنظمة السياسية. الخطاب الديني – أكرر دائما – جزء من الخطاب العام. الأصولية الدينية تنتعش في مناخ مُشبع بالأصوليات، التي جوهرها الإيديولوجي امتلاك الحقيقة ونفي الآراء المخالفة واضطهاد أصحابها بالسجن والتشريد والقتل أحيانا. لنعد إلى الأصوليات القومية والاشتراكية، سنجد أنها في ينيتها العميقة أصوليات جهادية، يحل فيها "التخوين" و"العمالة" و"التحريف" محل "التكفير" و"الهرطقة" .. الخ. حين كان ثمة خطاب عام ليبرالي كان الخطاب الديني إلى حد ما ليبراليا متسائلا.
الفرق بين الأصوليات لا يوجد في منطلقاتها الفكرية. في المنطلقات الفكرية الأساسية – أكرر الأساسية – لافرق بين "حماس" والإخوان" ولا فرق بين "حزب الله" و"ولاية الفقيه" في إيران. قد يكون هناك خلاف في التفاصيل منشؤها انخراط "حماس" في قضية وطنية، انخراطها في المقاومة كمشروع سياسي لاستعادة الأرض.
وقد يكون اختلاف "حزب الله" عن "ولاية الفقيه" الإيرانية منشؤه الوضع اللبناني وتاريخ الشيعة في لبنان، وقيادة "حزب الله" للتصدي للمشروع الإسرائيلي. في هذه التفاصيل يكمن الاختلاف، لكنه لا يطال المنطلقات الدينية الأساسية. من هنا فإن تأييدي للمقاومة في لبنان وفي فلسطين لا يعني أنني أتردد في التصدي النقدي للأساسيات "الدجماطيقية" لكل منهما.
- في مقابل الحركات الأصولية التي تمارس زحفا قروسطيا سيقودنا إلى الهاوية، ثمة صعود لبعض التيارات الفكرية (القوميون الجدد، العلمانيون، دعاة المجتمع المدني) وكل منها يمتلك مشروعا جديدا وحلولا. كيف تقيم ذلك؟ وأين يكمن الحل برأيك؟
- لا أوافق على أن أحد هذه المشروعات يمتلك القدرة على الحل وحده، بل لا أعتقد أن هذه مشروعات جديدة أصلا. ما تحتاجه مجتمعاتنا هو مشروع تساهم في صياغته كل القوى المدنية – دون استبعاد أي فريق أيا كانت منطلقاته الإيديولوجية - التي تؤمن بضرورة التغيير وتسعى من أجل مجتمع حديث ديمقراطي متحرر، مجتمع يتمتع فيه كل المواطنين بحقوق قانونية متساوية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.
ولا يتم الوصول إلى صياغة هذا المشروع إلا من خلال حوار مجتمعي شامل، وهو حوار لا يتحقق إلا بشرط توفر "الحرية". من هنا السعي بكل السبل المدنية لانتزاع هذا الحق الأساسي من أنياب الطغيان والديكتاتورية والفساد.
- إذا كان الإصلاح الديني الذي ينادي به البعض –وأنت منهم- جزءا من الحل، فما هي الجوانب التي يجب أن يطالها الإصلاح؟ ولماذا يتعرض المفكرون الإصلاحيون (نصر حامد أبو زيد، محمد شحرور- سيد القمني وسواهم) إلى هجوم عنيف من الإسلاميين، فيما تعجز المؤسسات الدينية التقليدية "الأزهر وكليات الشريعة" عن إنتاج خطاب ديني يخلو من التلقين والتكرار، بل إنها- حسب صادق جلال العظم- تشهد انحدارا كبيرا بتنا نلمس بوادره في فتوى إرضاع الكبير وحديث الذبابة وغيرها؟
- الإصلاح الديني وصل إلى الحائط السد، حائط لا يمكن اختراقه إلا بقبول مراجعات جديدة لمسائل لم يتم مسها حتى الآن، مسائل من قبيل "المحرمات" في الخطاب العام، أو "اللامفكر فيه" حسب تعريف "محمد أركون".
وثمة دراسة قمت بها ونشرت باللغة الإنجليزية بعنوانReformation of Islamic Thought: A Critical Historical Analysis,
WRR-Verkenning no 10, Amsterdam University Press, 2006.
في هذه الدراسة رصدت إنجازات مشروع الإصلاح الديني في العالم الإسلامي – باستثناء تركيا – ووجدت أن كل الإنجازات تتوقف حيال القرآن عاجزة عن إنجاز مدخل نابع من إعادة الاعتبار للظاهرة القرآنية كظاهرة "خطابية" بالأساس.
أرجو عدم الخلط بين "الخطابية" كمفهوم مرتبط بعلم الخطاب في الدراسات اللغوية والفلسفية الحديثة وبين مفهوم "الخطبة" بمعنى المواعظ التي يلقيها القسس والمشايخ في الكنائس والمساجد. حالة "اللامساس" بالقرآن وعدم الاقتراب منه خارج نطاق أسوار التراث هي عنق الزجاجة التي على مشروع الإصلاح الديني أن يجتازها.
هناك محاولات جديرة بالاعتبار في الفكر الشيعي في إيران، التي هي على وشك اجتياز مرحلة تذوق الثمرة المحرمة (الدولة الثيوقراطية). إن محاولات الذين ذكرتهم لا تخرج عن محاولة البحث عن المعني الجديدة ولكن من خلال التوجيهات والأدوات القديمة، عن طريق صب المعنى الجديد في قالب قديم.
الفشل الذي تعانيه حركات التجديد في كل مجتمعاتنا ليس فشلها الذاتي وحدها، ذلك أن هذا الفشل الذاتي ينبع من احتقان مجتمعي كامل يعاني منذ فترة طويلة جدا من غياب أفق لإنجاز أبحاث حقيقية – جديرة بهذا الاسم – في مجال دراسة الدين. مجتمعاتنا ومؤسساتنا التعليمية والأكاديمية مشغولة بتعليم الدين لا بدراسته. كل محاولات الدراسة تعرضت لدرجات من الإيذاء. "محمد عبده" يعاني من غياب أفكاره غيابا تاما في البرامج الدراسية للمؤسسة التي كان ينتمي إليها.
هذا الاحتقان المجتمعي طال مداه حتى تحول إلى حالة مقبولة من الجميع، خاصة في الشأن الديني. تم تجريف الدين، زالت خصوبته وتحول إلى "وقود" – مجرد وقود – يحرك العربة السياسية، أو يحفز على المقاومة. في عملية التجريف تلك تم خصاء العقول، فتقدمت "الفتوى" في عصر الإعلام المرئي لتخبر المواطن بما عليه أن يفعله في أي أمر، بدءا من شروط الطهارة حتى كيفية الجماع مرورا بنقل الأعضاء.
إنها سوق "الفتوى"، ليس فقط إرضاع الكبير، بل تحريم المظاهرات، وتحبيذ وراثة الحكم، واعتبار أن تدخل الحكومات في تحديد أسعار السلع ضد الدين (النبي لم يفعل ذلك ولا الصحابة. تصور!) كل هذا يعود بنا من جديد إلى سؤال "الحرية".
مع أجمل التحيات و أطيب الأمنيات. _ برهان محمّد سيفو.
___________________________________________________________
رغم سنواته الطويلة التي قضاها في هولندا، يرفض المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد اعتبار غربته منفى، مشيرا إلى أنه تصالح مع أمه (مصر) منذ عام 2003 حيث احتفل مع عدد من المثقفين المصريين بمناسبة بلوغه عامه الستين، فضلا عن دعوته من قبل جامعة القاهرة للمشاركة في الاحتفال بعيدها المئوي، وهو ما يبدو نوعا من التكفير عن الإجراءات التي اتخذتها ضدها قبل أعوام واضطرّته إلى مغادرة مصر.
- ثمة إشكالية يثيرها بعض المفكرين حول علاقة الإسلام بمفهومي الديمقراطية والحرية، إذ يرى البعض منهم أن الإسلام بوضعه الحالي لا يستطيع الانسجام مع المفهومين السابقين، بيد أنك تعترض في إحدى حواراتك على مسألة ربط الإسلام بالحرية والديمقراطية، مشيرا إلى أنه ليس ضد مبدأ تطبيقهما، والسؤال: إذا كان الإسلام، حقا، ليس ضد الحرية والديمقراطية، فلماذا بتنا نشهد مؤخرا صعود تيارات إسلامية ذات نزعة أصولية إلغائية ترفض التعامل مع الآخر إلا من منظور ديني ضيق؟ ومن ثم إلى أي مدى يمكن للإسلام التعايش مع الثقافات والقيم الجديدة؟
- أصبحتُ في الآونة الأخيرة أعارض مناقشة كل المسائل والقضايا الاجتماعية والسياسية، بل والاقتصادية والعلمية والطبية، من منظور "الدين" أيا كان هذا الدين. هذا ما أُطلق عليه "تديين كل شيء" كأنه لم يكن يكفينا تديين الدولة، التي من المفترض أن تكون دولة "المواطنين" القاطنين على أرضها بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، لم يكن يكفينا هذا فانطلقنا في حمى عارمة نديِّن كل شيء.
سؤال الحرية والديمقراطية سؤال سياسي اجتماعي فلسفي قبل أن يكون سؤالا لاهوتيا. في علوم اللاهوت في كل الأديان نوقش سؤال الحرية من منظور ضيق للدفاع عن حرية الإرادة الإلهية. أي أن النقاش انحصر فيما إذا كانت حرية الإنسان في اختيار أفعاله تنتقص من الحرية الإلهية أم لا. كانت هذه حدود النقاشات اللاهوتية.
في مجتمعاتنا الحديثة – أو التي تشبه أن تكون حديثة – حين يطرح سؤال الحرية يبدأ النقاش أوتوماتيكيا حول "الحدود" و"الضوابط"، حدود الحرية وضوابطها. أي أننا قبل أن نمارس الحرية نفكر في "القيود". هذا يعكس فزعنا من الحرية، ومن الديمقراطية التي نتشدّق بالإيمان بها تشدقا بلاغيا، لكن لا أحد يمارسها مع زوجته أو أطفاله. وقليل هم المعلمون والأساتذة الذين يمارسونها مع تلاميذهم وطلابهم.
ومع ذلك سأجيب على السؤال: لا أجد فيما درست وتعلمت وبحثت وكتبت طيلة حياتي في الإسلام "مانعا" ضد الديمقراطية. والمسألة بسيطة، الديمقراطية مفهوم اجتماعي سياسي مرتبط بالدولة الحديثة التي لم توجد في عصر النبي ولا في عصر التابعين ولا تابعي التابعين.
حين انبثق سؤال "الديمقراطية" وجد البعض في مفهوم "الشورى" ما يسمح بتمرير الديمقراطية، لكن كان على هذا التأويل للشورى أن ينتظر انبلاج عصر الديمقراطية. هكذا ترى تأثير العصر في إعادة قراءة المفاهيم التراثية. لكن البعض يعتقد للأسف أن هذه الدلالة المعاصرة كانت كامنة في المفهوم بسبب تصور أنه مفهوم "مقدس".
أما مفهوم الحرية فهو في تقديري محايث لأي دعوة دينية، فالنبي الذي يأتي بدعوة جديدة يدعو الناس إليها لابد أن يكون مؤمنا بحرية هؤلاء الذين يدعوهم وحقهم في تغيير اختيارهم الديني، بترك أديانهم والالتحاق بدعوته. بل إن كل دعوة دينية تحض الناس عل ممارسة هذه الحرية، وتنعي عليهم التمسك بتقاليد الآباء والسير على نهجهم.
القرآن مليء بهذه العبارات التي تسخر من هؤلاء الذين يقولون "هكذا وجدنا آباءنا" فيرد القرآن "أو لو كان أبائهم لا يعلمون شيئا ولا يفقهون". لكن عملية لهوتة الدين – أي تحويل الدين إلى لاهوت – تحرم الناس من حريتهم التي على أساسها اختاروا هذا الدين بعينه.
تصبح "حرية الدين" مُحرمة، ويصبح سؤال الحرية مكبلا بالبحث عن الحدود والضوابط قبل بدء الممارسة. لا يدرك هؤلاء اللاهوتيون أنهم يحولون "الدين" إلى سجن، ويحولون الله – تعالي عن تصوراتهم – إلى "سجان"، ويصبح "الأنبياء" حرس سجون ... الخ كل هذا الهراء.
- أبقى في إطار السؤال السابق، برأيك ما سبب صعود التيارات الأصولية السابقة إلى الواجهة؟ وما الفرق بينهما وبين حركات المقاومة الإسلامية (حماس- حزب الله) التي يمكن نعتها بالتشدد، اعتمادا على أنّ خطابها الإيديولوجيّ منسجم- إلى حد ما- مع التيار السلفي؟
- علينا أن نبحث عن الأسباب في علل المجتمعات وأخطاء وخطايا الأنظمة السياسية. الخطاب الديني – أكرر دائما – جزء من الخطاب العام. الأصولية الدينية تنتعش في مناخ مُشبع بالأصوليات، التي جوهرها الإيديولوجي امتلاك الحقيقة ونفي الآراء المخالفة واضطهاد أصحابها بالسجن والتشريد والقتل أحيانا. لنعد إلى الأصوليات القومية والاشتراكية، سنجد أنها في ينيتها العميقة أصوليات جهادية، يحل فيها "التخوين" و"العمالة" و"التحريف" محل "التكفير" و"الهرطقة" .. الخ. حين كان ثمة خطاب عام ليبرالي كان الخطاب الديني إلى حد ما ليبراليا متسائلا.
الفرق بين الأصوليات لا يوجد في منطلقاتها الفكرية. في المنطلقات الفكرية الأساسية – أكرر الأساسية – لافرق بين "حماس" والإخوان" ولا فرق بين "حزب الله" و"ولاية الفقيه" في إيران. قد يكون هناك خلاف في التفاصيل منشؤها انخراط "حماس" في قضية وطنية، انخراطها في المقاومة كمشروع سياسي لاستعادة الأرض.
وقد يكون اختلاف "حزب الله" عن "ولاية الفقيه" الإيرانية منشؤه الوضع اللبناني وتاريخ الشيعة في لبنان، وقيادة "حزب الله" للتصدي للمشروع الإسرائيلي. في هذه التفاصيل يكمن الاختلاف، لكنه لا يطال المنطلقات الدينية الأساسية. من هنا فإن تأييدي للمقاومة في لبنان وفي فلسطين لا يعني أنني أتردد في التصدي النقدي للأساسيات "الدجماطيقية" لكل منهما.
- في مقابل الحركات الأصولية التي تمارس زحفا قروسطيا سيقودنا إلى الهاوية، ثمة صعود لبعض التيارات الفكرية (القوميون الجدد، العلمانيون، دعاة المجتمع المدني) وكل منها يمتلك مشروعا جديدا وحلولا. كيف تقيم ذلك؟ وأين يكمن الحل برأيك؟
- لا أوافق على أن أحد هذه المشروعات يمتلك القدرة على الحل وحده، بل لا أعتقد أن هذه مشروعات جديدة أصلا. ما تحتاجه مجتمعاتنا هو مشروع تساهم في صياغته كل القوى المدنية – دون استبعاد أي فريق أيا كانت منطلقاته الإيديولوجية - التي تؤمن بضرورة التغيير وتسعى من أجل مجتمع حديث ديمقراطي متحرر، مجتمع يتمتع فيه كل المواطنين بحقوق قانونية متساوية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.
ولا يتم الوصول إلى صياغة هذا المشروع إلا من خلال حوار مجتمعي شامل، وهو حوار لا يتحقق إلا بشرط توفر "الحرية". من هنا السعي بكل السبل المدنية لانتزاع هذا الحق الأساسي من أنياب الطغيان والديكتاتورية والفساد.
- إذا كان الإصلاح الديني الذي ينادي به البعض –وأنت منهم- جزءا من الحل، فما هي الجوانب التي يجب أن يطالها الإصلاح؟ ولماذا يتعرض المفكرون الإصلاحيون (نصر حامد أبو زيد، محمد شحرور- سيد القمني وسواهم) إلى هجوم عنيف من الإسلاميين، فيما تعجز المؤسسات الدينية التقليدية "الأزهر وكليات الشريعة" عن إنتاج خطاب ديني يخلو من التلقين والتكرار، بل إنها- حسب صادق جلال العظم- تشهد انحدارا كبيرا بتنا نلمس بوادره في فتوى إرضاع الكبير وحديث الذبابة وغيرها؟
- الإصلاح الديني وصل إلى الحائط السد، حائط لا يمكن اختراقه إلا بقبول مراجعات جديدة لمسائل لم يتم مسها حتى الآن، مسائل من قبيل "المحرمات" في الخطاب العام، أو "اللامفكر فيه" حسب تعريف "محمد أركون".
وثمة دراسة قمت بها ونشرت باللغة الإنجليزية بعنوانReformation of Islamic Thought: A Critical Historical Analysis,
WRR-Verkenning no 10, Amsterdam University Press, 2006.
في هذه الدراسة رصدت إنجازات مشروع الإصلاح الديني في العالم الإسلامي – باستثناء تركيا – ووجدت أن كل الإنجازات تتوقف حيال القرآن عاجزة عن إنجاز مدخل نابع من إعادة الاعتبار للظاهرة القرآنية كظاهرة "خطابية" بالأساس.
أرجو عدم الخلط بين "الخطابية" كمفهوم مرتبط بعلم الخطاب في الدراسات اللغوية والفلسفية الحديثة وبين مفهوم "الخطبة" بمعنى المواعظ التي يلقيها القسس والمشايخ في الكنائس والمساجد. حالة "اللامساس" بالقرآن وعدم الاقتراب منه خارج نطاق أسوار التراث هي عنق الزجاجة التي على مشروع الإصلاح الديني أن يجتازها.
هناك محاولات جديرة بالاعتبار في الفكر الشيعي في إيران، التي هي على وشك اجتياز مرحلة تذوق الثمرة المحرمة (الدولة الثيوقراطية). إن محاولات الذين ذكرتهم لا تخرج عن محاولة البحث عن المعني الجديدة ولكن من خلال التوجيهات والأدوات القديمة، عن طريق صب المعنى الجديد في قالب قديم.
الفشل الذي تعانيه حركات التجديد في كل مجتمعاتنا ليس فشلها الذاتي وحدها، ذلك أن هذا الفشل الذاتي ينبع من احتقان مجتمعي كامل يعاني منذ فترة طويلة جدا من غياب أفق لإنجاز أبحاث حقيقية – جديرة بهذا الاسم – في مجال دراسة الدين. مجتمعاتنا ومؤسساتنا التعليمية والأكاديمية مشغولة بتعليم الدين لا بدراسته. كل محاولات الدراسة تعرضت لدرجات من الإيذاء. "محمد عبده" يعاني من غياب أفكاره غيابا تاما في البرامج الدراسية للمؤسسة التي كان ينتمي إليها.
هذا الاحتقان المجتمعي طال مداه حتى تحول إلى حالة مقبولة من الجميع، خاصة في الشأن الديني. تم تجريف الدين، زالت خصوبته وتحول إلى "وقود" – مجرد وقود – يحرك العربة السياسية، أو يحفز على المقاومة. في عملية التجريف تلك تم خصاء العقول، فتقدمت "الفتوى" في عصر الإعلام المرئي لتخبر المواطن بما عليه أن يفعله في أي أمر، بدءا من شروط الطهارة حتى كيفية الجماع مرورا بنقل الأعضاء.
إنها سوق "الفتوى"، ليس فقط إرضاع الكبير، بل تحريم المظاهرات، وتحبيذ وراثة الحكم، واعتبار أن تدخل الحكومات في تحديد أسعار السلع ضد الدين (النبي لم يفعل ذلك ولا الصحابة. تصور!) كل هذا يعود بنا من جديد إلى سؤال "الحرية".
مع أجمل التحيات و أطيب الأمنيات. _ برهان محمّد سيفو.