الأجنحة المتكسرة
مجموعة قصصية
مجموعة قصصية
بقلم الناقد :علي الصيرفي[
size=21
]للأديبة وفاء خرما[/size]
ربما نستطيع أن ندرك أفضل من ذي قبل كيف أن هدف القص الوصول إلى الحقيقة وإلى تحول داخلي يدرك كل التداولات الخارجية بما فيها من معطيات وأحداث ،وما ينجم على ذلك من انفعالات أثناء تناول الأشياء ، ومدى توضيح عملية القص وتحويلها إلى بارقة مفيدة حيث أن شعاع القص يصدر من منبع الضوء المحتجب في رؤية الأدباء ، فيبدو القص في غزارة أحداثه منارات تدعو المتلقي أن يلاحظ كل ما يجري وأن يحدد حافة الهوية ، ويقف على الطريق الصحيح للتحول والوصول إلى القيم .
إن ارتداء لباس القص ينطوي على معنى معرفي يتجدد باستمرار كما الربيع الذي يعيد للأرض زينتها ، ويوضح الشرور التي تعد المخلوقات معادية للإنسانية فنجدها عبر القص قاسية ملعونة تدخل مع الإنسان في حركة جدلية وطريقة ملتوية تحاول إبعاد الخير ،فيأتي القص ليجسد في ذاته ميزات دون أن يفقد وضوح الرؤية لكل ما يدور فيبدأ بالتحرك وسط كل هذه المتحركات والأديبة( وفاء خرما ) نجحت في هذه الحركة اللولبية ، والتي تنمو باستمرار لتصحيح المسارات التي فتحتها الموجودات البائسة على مساحات المجتمع ، وذلك في مجموعتها القصصية ( الأجنحة المتكسرة ) وبهذا الدخول الناهض في عملية الكتابة تمكنت الكاتبة من اعتبار القص الطريق الصحيح للتعبير عما ترى وتلاحظ فقد درست الأديبة القص واستطاعت أن تتعرف على أحوال النفس والمزاج والانفعالات وكانت دائماً تدمجها في تكوين الإنسان لأنها محاولة لتفسير الإنسان وتحليل لحياته الانفعالية فالأشياء البسيطة التي تتركب منها حياة شخوص الكاتبة تدل على مدى تمتع الأديبة بخلق الفكرة القصصية والعمل على تداولها ، فهي تجد نفسها في عيون الفضاءات العائمة حولها ، وتقفز بوعيها وتغرق في كل التأملات التي تدير عملية خلق القص وتناول الحدث فكل فعل تقوم به الأديبة هو خط بياني يدفع بالمؤشر نحو الأعلى ولا شك أن قدراً كبيراً من الروح الجماعية على مستوى العلاقات اليومية ستظهر في عمل الأديبة .
( أمام باب الشقة وقفت تنظر مسندة ظهرها بإعياء إلى الجدار المجاور أدار ابنها المفتاح في القفل ،أدركت كفها ففوجئت بإصبعها الفارغ من الخاتم .... لم يفتح الباب ..انفتحت ذاكرتها على صورة السقطة ويدها التي لاقت الحائط بعنف سقطت المفاتيح من يدها ..هناك في ممر المشفى لا شك هوى ) ص12-13
1 – ربما أرادت الأديبة الولوج إلى أضيق الممرات التي تنزاح منها الصور القصية لتبدو الحقائق مضاءة كما الشمس المحرقة ،وهي بذلك تقول أن الأشياء ودخولها يتم بمفاتيح لا يجيد استعمالها أي إنسان وطريقة الدخول لابد أن تكون بسلوكية تتحدد من خلال الفعل الإرادي وقدرة الوعي وتحكم الفكر السليم في فتح هذه الأبواب ،فالأبواب الموصودة في عالم الأديبة كثيرة ،وهي تخلق عند شخوصها مشكلة اليأس والبحث عن نوافذ تمكنهم من الاتصال بالآخر ،فالعلاقات تنحو نحو القسوة وعدم الاطمئنان لما سيكون وهذا تدهور قاس في بناء المجتمع وعدم الثقة بين الشخوص لذلك نجد الأديبة تبحث عن طرائق تمكنها من بث لواعج هؤلاء المعذبين ، دون أن تركن للقسوة التي تتسلط على رقابهم بل تحاول لأن تخترق كل الظلم والمفاهيم البائدة لتضع مكانها رؤية تدل على التمسك بالحقيقة وعدم الصمت أمام التسلط ،لأنها تعي الزمن الذي انتقل بها إلى خضم التيارات المتصارعة، لذلك نراها تحد من تطرفها وترسل إشارات كثيرة تتصالح فيها مع الذات المفكرة ، لأنها تجد فيها الخلاص ، والقدرة على تجسيد الألم والانتقال إلى ملكوت ما فوق الإنسان فهناك تشعر بالاطمئنان والتوصل إلى الجزر الهادئة التي تريد رسمها والعيش بين روابيها .
(واندفعنا إليها نقبلها .. نضمها ..نشمها ..ما ما أين كنت ؟ ما الذي جرى لك كيف ؟ وأين ... لم تتفوه بكلمة تنهدت بعمق وتحركت ببطء نحو الصوفا جلست عليها مسندة ظهرها إلى إحدى حشاياها ) ص20
2 – يتبادر إلى الذهن هذا السؤال الضخم أين أمي ، وأين كانت ، وربما أرمزت الأديبة إلى الحب الجارف الذي يعصف بكل العواطف الإنسانية أمام حب الأم التي هي الوطن والقوة والجسد الذي يتمثل بالطهر والبراءة ، هي دورة الحياة وخصوبة المكان والنهوض الذي تنطلق منه الرايات ، وبالمقابل نجد الأديبة تحرك مشاعر الآخرين من خلال الضغوط التي رسمتها والتي قدمتها الأم بجدية المرأة الواعية التي جعلت العقل مَثَلَها واستنارت بالفكر والجدل والقدرة على محاكاة الآخر دون الرضوخ إليه حاولت مناقشته والعمل على تغيير رأيه إن كان بالإمكان ذلك . وتستمر الأديبة وفاء خرما تناقش قضايا ذات التصاق حميمي بشخوصها ، وتضع الصكوك التي توضح هذه المعايير بل نجدها تدخل في عمق الذات الإنسانية وتمسك بزمام الأشياء وبالتأكيد تحاول أن تضمن علاقات تكسب الفرد القدر على الوقوف وسط غابة من الحراب الحادة التي تريد الانغراس في جسد من يسقط فهي تسير بخطوات حذرة تقدر المسافات التي تسمح لها بالتعرف على جمال الحياة وإبعاد الشرور وتقدير المواقف من خلال الأفعال القصصية المغلفنة بالمعرفة والإرادة .
(أمي نهضت عن مقعدها ، وقد اتسعت عيناها انفعالاً مع دقات قلبها تلك التي رأيتها بأم عيني كيف تدفع بصدرها نحو الأمام ثم تعيده إلى موقعه في حركة متواترة مع أنفاسها المضطربة ) ص47
3 – تعيد الأديب في قصها رسومات رائعة التكوين والتلوين وهي خاضعة بنفس الوقت للذة والانتقاء لأنها تدرك أهمية ما تريد إيصاله للمتلقي وخاصة عندما يتعلق الأمر بخصوصية الشخص ، لقد التقطت الكاتبة وفاء خرما صورة ملائكية حينما قصت حكاية الحمامتين وقد ذبحتهما البنت ورمت بهما ليقضيا نحبهما .. لكنها فوجئت بأن الحمامتين قد رحلتا إلى قبر الوالد وهناك تاها في عناق طويل وهديل ضعيف ونشوة تدل على اللذة والفراق والموت ،إنها الرؤية الجميلة التي تعكس الكثير من المخزون الفكري في نفس الكاتبة فأخرجت هذا البركان من صدرها وبهدوء جميل يدل على الدقة والقدرة هنا تكمن روعة القص ،فالحب يجمع القلوب وحتى الحمام ... والكائنات التي تألف الإنسان ( خارج سور الحديقة ذبحتهما قذفتهما بعيداً واستدرت مسرعة لأتجنب رذاذ الدم النافر من عنقيهما ) وتتابع الأديبة القول :في محاولة حثيثة للعثور عليهما قفزت فوق السور الحجري ورحت أتخبط في مشية متعثرة محدقة في الأرض الحصباء صوت أرعش قلبي بين ضلوعي كان صوتها ضعيفاً كغمغمة لكنه هديل ) ص53
إن هناك كثرة من الرؤى عند الأديبة وكل منها منظم داخلياً ، وتتضارب التطلعات في إدراك وجهات النظر والتفهم التي تستخدم من قبلها لتحديد نوعية الوعي والقوة الدافعة.