من طرف برهان سيفو الثلاثاء فبراير 03, 2009 12:31 am
قراءة في مذهب "وحدة الوجود" من منظور الشيخ الأكبر "ابن عربي" / القسم الثاني.
الإنسان الكامل.
_____________
كان ﻟ "حسين بن منصور الحلّاج " - الذي هو أول و أعظم من استشهد في الطريق الصوفي في أوائل القرن الرابع الهجري –الأثر الأكبر في وضع أساس النظرية الفلسفية الصوفية التي عرفت عند "ابن عربي" بنظرية الإنسان الكامل،ف"الحلّاج" أول من تنبه إلى المغزى الفلسفي الذي تضمنه (العهد القديم من الكتاب المقدس) : بأن الله تعالى خلق "آدم" عليه السلام على صورته ( أي الصورة الإلهية)،و بني الحلّاج على ذلك نظريته في "الحلول" مفرقا بين ناحيتين مختلفتين في الطبيعة الإنسانية،هما (("اللاهوت"و "الناسوت"))و هما في نظر "الحلّاج" طبيعتان لا تتحدان أبدا بل تمتزج إحداهما بالأخرى (كما يمتزج الخمر بالماء) و بذلك أقر الحلّاج لأول مرة في تاريخ الإسلام بتلك الفكرة التي أحدثت – فيما بعد - انقلابا بعيد المدى في الفلسفة الصوفية ((فكرة تأليه الإنسان،أو اعتبار الإنسان نوعا خاصا من الخلق لا يدانيه في لاهوتيته نوع آخر)) - .
أخذ " ابن عربي "فكرة الحلّاج هذه لكنه اعتبر ("اللاهوت" و "الناسوت")مجرد وجهين (لا طبيعتين منفصلتين)لحقيقة واحدة،إذا نظرنا إلى صورتها الخارجية سميناها ناسوتا،و إن نظرنا إلى باطنها و حقيقتها سميناها لاهوتا.
فصفتا اللاهوت و الناسوت بهذا المعنى (صفتان متحققتان)لا في الإنسان وحده،بل في كل موجود من الموجودات و (مرادفتان لصفتي الباطن و الظاهر)،أو لكلمتي (الجوهر و المظهر).
و "الحق"الذي يتجلى في جميع صور الوجود،(يتجلى في الإنسان في أعلى صور الوجود و أكملها)،لهذا ظهرت في الإنسان هاتين الصفتين ظهورا لا يدانيه فيهما موجود آخر. و على ذلك بني "ابن عربي" نظريته في الإنسان و منزلته من "الله" و "الخلق". فالإنسان أكمل مجالي "الحق" لأنه هو "المختصر الشريف"و "الكون الجامع" لكل حقائق الوجود و مراتبه،إنه(أي الإنسان) هو "العالم الأصغر" الذي انعكست في مرآة وجوده كل كمالات "العالم الأكبر"،أي كمالات الحضرة الإلهية الأسمائية و الصفاتية،لهذا استحق الإنسان دون سائر خلق الله أن تكون له الخلافة عن الله. فالإنسان الكامل (المرموز إليه "بآدم"عليه السلام) : هو الجنس البشري في أعلى مراتبه،حيث لم تجتمع كمالات الوجود (العقلي و الروحي و المادي)إلاّ فيه. و الإنسان الكامل في الحقيقة لا يصدق في الحقيقة إلاّ على مرتبة الأنبياء و الأولياء،و أكمل هؤلاء هو النبي محمّد(ص)ليس كنبي و مبعوث،بل "الحقيقة المحمدية" أو الروح المحمدية (التي سبقت في وجودها لدى "الحق" وجود"آدم" عليه السلام)،فهذه الروح المحمدية هي المظهر الكامل للذات الإلهية و الأسماء و الصفات. إن نظرية "ابن عربي"في الإنسان الكامل و ما تفرع عنها من بحوث فلسفية دقيقة،ما هي إلاّ جزء من نظرية أخرى له في ("الكلمة الإلهية")و هي الأوسع و الأشمل،و تقوم نظريته هذه على ثلاثة مسائل هامة كلها تدور حول محور واحد،و تلك المسائل الثلاث هي :
الأولى : "الكلمة" من الناحية الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة).
___________________________________
و هذه يسميها "حقيقة الحقائق"و هي مرادفة للعقل الإلهي،أو العلم الإلهي،و لمّا كان "الحق" لا يعقل شيئا مغايرا لذاته،و عقله ذاته عقل لجميع الأشياء،كانت حقيقة الحقائق(عقلا و عاقلا و معقولا)،و(علما و عالما و معلوما)،فهي ("الحق"متجليا لنفسه في نفسه في صورة العالم المعقول).
الثانية : "الكلمة" من الناحية الصوفية.
_________________________
هذه ما يطلق عليها "ابن عربي" اسم (الحقيقة المحمّدية) و يعتبرها مصدر كل وحي و إلهام للأنبياء و الأولياء على السواء. و على ذلك (فالحقيقة المحمّدية) تساوي "قطب" عند الصوفية ،و إمام معصوما لدى الإسماعيلية و (القرامطة الذين هم فئة من الإسماعيلية)،أي أنها ((المحور الذي يدور عليه العالم الروحاني)).و يلاحظ القارئ ﻟ "فصوص الحكم"أن من أهم أغراض "ابن عربي" من هذا الكتاب هو شرح العلاقة بين (كل نبي) و الأصل الذي يستمد منه علمه و(ذلك الأصل)هو"الكلمة" أو "الحقيقة المحمّدية"،فهو يفسر نوع ذلك العلم الذي يسميه حكمة كذا و حكمة كذا،و الاسم الغالب على كل نبي،لأن كل نبي تحت تأثير "اسم الهي خاص"،إلاّ محمّد عليه السلام فإنه تحت تأثير "اسم الله" الذي هو جماع الأسماء الإلهية كلها.
الثالثة : "الكلمة"بمعنى "الإنسان الكامل".
________________________
و هو الإنسان في أعلى مراتبه من المعرفة الحقيقية .
الخلاصة.
_______________________________________________________________
طبعا لن يقدر احد أن ينتهي من علوم "ابن عربي" حتى لو شاء ذلك ،لأنه "ابن عربي" بحر واسع من المعارف و العلوم الفلسفية و الصوفية،لكننا سوف نتوهم أننا نأتي بخلاصة كي يتثنى لنا أن نختم موضوعنا هذا فنقول : إن ما قال به "ابن عربي" من تبعية العلم للمعلوم،و إن علم الله بنا تابع لما تعطيه أعياننا الثابتة بما هي عليه من الاستعداد و الأحوال،و أن إرادة الله لا تتعلق إلاّ بما علّم. يقودنا هذا إلى نتيجة غاية في الأهمية هي : أن الإنسان مسئول (من الناحية الشكلية على الأقل)عمّا يصدر عنه من الأفعال،لأنه لا يصدر عنه إلاّ ما تقتضيه عينه (ذاته).
أمّا القضاء .
________________
فهو حكم الله في الأشياء أن تكون على ما هي عليه في ذاتها كما علّمها أزلا،و هو لا يعلّمها إلاّ على نحو ما تعطيه أعيانها كما ورد أعلاه .
و أمّا القدر .
________________
فهو توقيت حصول الشيء كما تقتضيه طبيعة عينه، فكل ما يحكم به القضاء على الأشياء إنمّا يحكم به بواسطة الأشياء نفسها،لا بواسطة قوة خارجة عن طبيعتها،و هذا ما يسميه "ابن عربي"ﺑ : (سر القدر) كما ورد في (الفص ألعزيزي).
و على هذه "النظرية الجبرية" يرى "ابن عربي" إن كل شيء يقرر مصيره بنفسه من حيث أن له حظا من الوجود لا يتعداه،و هو لا يتعداه لأن عينه الثابتة اقتضته و لم تقتضي غيره،و لأن الله تعالى يعلم من الأزل إن هذا هو الأمر على ما هو عليه.بل إن الله نفسه لا يقدر أن يغير من ذلك شيئا لأن إرادته لا تتعلق بمستحيل. فالمؤمن و الكافر،المطيع و العاصي،كل أولئك يظهرون في وجودهم على نحو ما كانوا عليه في ثبوتهم : أي على نحو ما كانت عليه أعيانهم الثابتة في علم "الحق" و في ذاته . لذلك قال تعالى " و ما ظلمناهم و لكن كانوا لأنفسهم يظلمون"،و قال أيضا "و ما أنا بظلام للعبيد". يقول "ابن عربي" شارحا ذلك : "...ما عاملناهم إلاّ بحسب ما علمناهم،و ما علمناهم إلاّ بما أعطونا من نفوسهم بما هي عليه،فإن كان ظلم فهم الظالمون...كذلك ما قلنا لهم إلاّ ما أعطته ذاتنا أن نقول لهم،و ذاتنا معلومة لنا بما هي عليه من أن نقول كذا و لا نقول كذا" و يتابع "ابن عربي" : "فما قلنا إلاّ ما علمنا أن نقول.فلنا القول منا،و لهم الامتثال أو عدم الامتثال مع السماع منهم"(من الفص اللوطي). و يتابع "ابن عربي" : "فلا تحمدنّ إلاّ نفسك ولا تذمنّ إلاّ نفسك.أمّا "الحق" فلم يبق له إلاّ أن تحمده على إفاضة الوجود عليك، فإن ذلك له لا لك ".(من الفص الإبراهيمي). و يتابع "الشيخ الأكبر" قوله في الإنسان : " فما أعطاه الخير سواه،و لا أعطاه الشر غيره،بل هو منعّم ذاته و معذبها : فلا يذمن إلاّ نفسه و لا يحمدن إلاّ نفسه،فلله الحجة البالغة في علمه بهم،إذ العلم يتبع المعلوم" (من الفص اليعقوبي). و يفرق "ابن عربي"هنا بين نوعين من الأمر الإلهي:
الأمر ألتكليفي .
______________
الذي يخاطب به الله عباده فيطيعونه أو يعصونه على حسب مقتضيات أعيانهم الثابتة.
الأمر التكويني .
_____________
الذي يعبر عنه بالمشيئة الإلهية و هذه لا تتعلق بشيء إلاّ وجد على النحو الذي قدّر أزلا أن يكون عليه. فكل شيء في الوجود خاضع للأمر التكويني،منفذ للإرادة الإلهية، سواء في ذلك الخير و الشر و الطاعة و المعصية و الإيمان و الكفر،فإن أتى الفعل موافقا للأمر ألتكليفي سمي طاعة و استلزم الحمد،و إن أتى مخالفا له سمي معصية و كفرا و استلزم الذّم .و هو في كلتا الحالتين عين الطاعة للأمر التكويني،و معنى هذا "أن المشيئة الإلهية (تتعلق بالفعل من حيث هو)،لا بالفاعل الذي يظهر الفعل على يديه"(من الفص اللقماني).
و عن الثواب و العقاب يقول "ابن عربي" : " إن الثواب اسم ناشئ عن الطاعة في نفس المطيع،و إن العقاب اسم للأثر النفسي الناشئ عن المعصية في نفس العاصي"و "ابن عربي" يرى أن "الاختلاف بين أهل الجنة و أهل النار،اختلاف في درجة كل من الفئتين في المعرفة بالله و مرتبتهم في التحقق بالوحدة الذاتية مع الحق" و حجة "ابن عربي"في ذلك واضحة لا لبس فيها و هي مستمدة من روح مذهبه العام،ذلك أن رحمة الله وسعت كل شيء،و ليس في الوجود شيء إلاّ ذكرته الرحمة الإلهية.و معنى ذكر الرحمة الإلهية هو : منح ذلك الشيء الوجود على النحو الذي هو عليه. فالنعيم الحقيقي إذن : هو الحالة التي يكون عليها الإنسان بعد موته و (عودته إلى أصله الذي عنه ظهر)،فهنالك يتحقق من منزلته،و يكون نعيمه على قدر هذه المنزلة،أي على درجة قربه من الله تعالى. (فمن تحقق بالوحدة الكاملة في حياته و عرف سر هذه الوحدة كان له أعظم قسط من النعيم،و من سترته الحجب عن هذه الوحدة فلم يدرك إلاّ جزءا من أسرارها كان نعيمه على قدر إدراكه).
هكذا فإن مذهب "وحدة الوجود" عند "الشيخ الأكبر ابن عربي"يعالج مفاهيم (الاصطلاحات الدينية) فيضفي عليها مسحة فلسفية صوفية تتفق و روح مذهبه،فالله عنده هو الواحد "الحق" و الوجود المطلق ،الظاهر منذ الأزل بصورة كل متعين، و العالم ظل الله لا وجود له في ذاته،و لكنه من حيث عينه و جوهره قديم قدم الله نفسه،و (خلق العالم) ليس إحداثا له من العدم،بل تجلي "الحق" الدائم في صور الوجود، و الرحمة الإلهية هي منح الله الوجود للموجودات،و المعبود هو "الحق" الواحد مهما تعددت و تنوعت صور اعتقادات "الخلق" فيه،و الجنة و النار اسمان لنعيم القرب من الله و عذاب الاحتجاب عنه،و الطاعة و المعصية إسمان لا مدلول لهما إلاّ في نظر التكاليف الشرعية. ؋"ابن عربي" يهدم التصورات السائدة ليبني على أنقاض "ظاهر الشريعة" دينا أعمق في روحانيته و أوسع في أفقه، و أكثر إرضاء للنزعة الإنسانية العامة من كل ما تصوره أهل الظاهر( من الفقهاء و المتكلمين عن الدين).
مع كل الحب لكم جميعا، و تحية خاصة للأخ المحترم "وصيف" الذي أبى إلاّ أن يلقي بي في لجة هذا البحر المعرفي المتلاطمة أمواجه، الذي يخشى كثيرين من المهرة الغوص في لجّته، و لعل هذا ما يدفع البعض في كثير من الأحيان - (كما يفعل الأصوليون عادة) – إلى استنتاج مفاده : إن "تكفير الشيخ الجليل ابن عربي" أمر أهون عليهم بكثير من الغوص في لجة درره و كنوزه المعرفية ذات السمة العليا من حيث الوعي و الفهم العميق لجوهر الوجود و علته، و إن بقاء أولئك (التكفيريين) في حالة الفرجة من بعيد ، هذه الحالة ، تعدل بقائهم دون المعرفة الحقيقية التي تجعلهم أكثر قربا من الله تعالى، و هم لو أدركوا ذلك لعرفوا كم هم- (بحالهم هذه) - في حالة من الضلال المبين .و يحضرني هنا قول للأمين العام لعصبة الأمم المتحدة في ثلاثينات القرن المنصرم "سلطان محمّد شاه" ((لن أتطرق هنا قصدا إلى مرتبته الدينية و ما يعنيه لأتباعه، لأن بحثنا هنا في حضرة "ابن عربي" هو بحث متجرد عن المعتقدات)) يقول سلطان محمّد شاه (الآغا خان الثالث) : "الروح و المادة تتعاونان مع النفس دائما،و لا يمكن لهما أن يصلا بها إلى ما يسمى الجنة التي هي في الحقيقة - (و في رأي العقلاء المدركين)- حالة النفس البالغة كمال المعرفة الحقيقية.فالأرض ليست سوى مقام للنفوس التي لم تتوصل إلى هذه المعرفة العظيمة،أمّا الأنبياء فعندهم هذه المعرفة و الإدراك و دورهم الوحيد في هذه الدنيا هو إرشاد المخلوقات إلى دار السلام"
مع تحياتي لكم جميعا.
برهان محمّد سيفو - سلمية في 2/2/2009 م.
المرجع الذي أضيف في هذا القسم إلى المراجع المذكورة أعلاه هو :
____________________________________________________
كتاب : "تاريخ الدعوة الإسماعيلية" للمرحوم الدكتور و الأستاذ "مصطفى غالب". الطبعة الثانية – دار الأندلس – بيروت – لبنان.
عدل سابقا من قبل برهان سيفو في الثلاثاء فبراير 03, 2009 12:38 am عدل 1 مرات (السبب : تصويب)